فصل: قال في روح البيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)}.
أخبار لمبتدأ محذوف هو ضميرٌ يعود إلى ما عاد إليه ضمير {مَثَلُهم} [البقرة: 17] ولا يصح أن يكون عائدًا على {الذي استوقد} [البقرة: 17] لأنه لا يلتئم به أول التشبيه وآخرُه لأن قوله: {كمثل الذي استوقد نارًا} يقتضي أن المستوقد ذو بصر وإلا لمَا تأتى منه الاستيقاد، وحذف المسند إليه في هذا المقام استعمال شائع عند العرب إذا ذكروا موصوفًا بأوصاف أو أخبار جعلوه كأنه قد عُرِف للسامع فيقولون: فلان أو فتىً أو رجلٌ أو نحو ذلك على تقدير هو فلان، ومنه قوله تعالى: {جزاءً من ربك عطاءً حسابًا ربُّ السماوات والأرض وما بينهما} [النبأ: 36، 37] التقدير هو رب السماوات عُدل عن جعل رب بدلًا من ربك، وقول الحماسي:
سأشكر عَمرا إن تراختْ منيتي ** أياديَ لم تُمْنَنْ وإنْ هيَ جَلَّتِ

فتىً غيرُ محجوبِ الغِنى عن صديقه ** ولا مُظْهر الشكوى إذا النعل زلت

وسمى السكاكي هذا الحذف الحذفَ الذي اتبع فيه الاستعمال الوارد على تركه.
والإخبار عنهم بهذه الأخبار جاء على طريقة التشبيه البليغ شبهوا في انعدام آثار الإحساس منهم بالصم البكم العمي أي كل واحد منهم اجتمعت له الصفات الثلاث وذلك شأن الأخبار الواردة بصيغة الجمع بعد مبتدأ هو اسم دال على جمع، فالمعنى كل واحد منهم كالأصم الأبكم الأعمى وليس المعنى على التوزيع فلا يفهم أن بعضهم كالأصم وبعضهم كالأبكم وبعضهم كالأعمى، وليس هو من الاستعارة عند محققي أهل البيان.
قال صاحب الكشاف: «فإن قلت هل يسمى ما في الآية استعارة قلت مختلف فيه والمحققون على تسميته تشبيهًا بليغًا لا استعارة لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون». اهـ. أي لأن الاستعارة تعتمد على لفظ المستعار منه أو المستعار له في جملة الاستعارة فمتى ذكرا معًا فهو تشبيه، ولا يضر ذكر لفظ المستعار له في غير جملة الاستعارة لظهور أنه لولا العلم بالمستعار له في الكلام لما ظهرت الاستعارة ولذلك اتفقوا على أن قول ابن العميد:
قامت تظللني من الشمس ** نفسٌ أعزُّ عليّ من نفسي

قامت تظللني ومن عجب ** شمسٌ تظللني من الشمس

إن قوله: شمس استعارة ولم يمنعهم من ذلك ذكر المستعار له قبل في قوله: نفس أعز، وضميرها في قوله: قامت تظللني وكذا إذا لفظ المستعار غير مقصود ابتناء التشبيه عليه لم يكن مانعًا من الاستعارة كقول أبي الحسن ابن طَبَاطَبَا:
لا تعجبوا من بلى غلالته ** قد زرّ أزراره على القمر

فإن الضمير لم يذكر ليبنى عليه التشبيه بل جاء التشبيه عقبه.
والصم والبكم والعمى جمع أصم وأعمى وأبكم وهم من اتصف بالصمم والبكم والعمي، فالصمم انعدام إحساس السمع عمن من شأنه أن يكون سميعًا، والبكم انعدام النطق عمن من شأنه النطق، والعمي انعدام البصر عمن من شأنه الإبصار.
وقوله: {فهم لا يرجعون} تفريع على جملة: {صم بكم عمي} لأن من اعتراه هذه الصفات انعدم منه الفهم والإفهام وتعذر طمع رجوعه إلى رشد أو صواب.
والرجوع الانصراف من مكان حلول ثان إلى مكان حلول أول وهو هنا مجاز في الإقلاع عن الكفر. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} الآية هذه الآية يدل ظاهرها على أن المنافقين لا يسمعون ولا يتكلمون ولا يبصرون، وقد جاء في آيات أخر ما يدل على خلاف ذلك كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} وكقوله: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِم} الآية، أي لفصاحتهم وحلاوة ألسنتهم، وقوله: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَاد} إلى غير ذلك من الآيات، ووجه الجمع ظاهر، وهو أنهم بكم عن النطق بالحق وإن رأوا غيره، وقد بين تعالى هذا الجمع بقوله: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} الآية، لأن مالا يغني شيئا فهو كالمعدوم والعرب ربما أطلقت الصمم على السماع الذي لا أثر له ومنه قول قعنب بن أم صاحب:
وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا ** صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به

وقول الشاعر:
وأسمع خلق الله حين أريد ** أصم عن الأمر الذي لا أريده

عن الجود والفخر يوم الفخار ** فأصممت عمرا وأعميته

وكذلك الكلام الذي لا فائدة فيه فهو كالعدم.
قال هبيرة بن أبي وهب المخزومى:
لك النبل تهوي ليس فيها نصالها ** وإن كلام المرء في غير كنهه

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمى فهم لا يرجعون} وورد فيما بعد: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لايسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمى فهم لا يعقلون} ففى الأولى {لا يرجعون} وفى الثانية {لا يعقلون} مع اتحاد الأوصاف الواردة مورد التسبب والعلة فيما نسب لهم.
والجواب عنه: أنه لما مثل حال المنافقين بحال مستوقد النار لطلب الإضاءة وأنه لما أضاءت ما حولها أذهبها الله وطفيت فلم يكن له ما يستضئ به ويرجع إليه فنفى عنهم وجود ما يرجعون إليه من ضياء يدفع حيرتهم وهذا بين.
أما الآية الثانية فإنه مثل حال الكافرين فيها بحال الغنم في كونها يصاح بها وتنادى فلا تفهم عن راعيها ولا تسمع إلا صوتًا لا تعقل معناه ولا نفهم ما يراد به كذلك الكفار في خطاب الرسل إياهم فلا يجيبونهم ولا يعقلون ما يراد بهم وهذا مناسب وكل على ما يجب.
فإن قيل أما تمثيل الكفار وتشبيههم بالغنم فيما ذكر فقد أفصح ذلك قوله تعالى: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام} فقد وضح هذا ما ذكرته إلا أن آية البقرة إنما ورد فيها ببادى سياق الكلام وظاهره تشبيه الكفار بالنعاق بالغنم لا بالغنم فكيف يرجع تقدير الآية إلى ما ذكرت؟
فالجواب: أن إيجاز الكلام يقتضى حذف ما يفهمه السياق اختصارًا فالتقدير في الآية ما مر من الإشارة إلى التشبيه بالطرفين ومنه قول الشاعر:
وإنى لتعرونى لذكراك فترة ** كما انتفض العصفور بلله القطر

فشبه في ظاهر الكلام ما يعروه من الفترة بانتفاض العصفور وليس مراده هذا وإنما يريد تشبيه ما يعروه بما يعرو العصفور بعد ما يدركه من بل المطر من الفترة وأنه ينتفض عندها كما ينتفض العصفور فحذف في كل من الطرفين ما أثبت نظيره. فالتقدير في البيت: وإن لتعرونى لذكراك فترة فانتفض كما تعرو العصفور فترة فينتفض فشبه ما يعروه بما يعرو العصفور والانتفاض بالانتفاض وعلى هذا حمل سيبويه الآية قال: لم يشبهوا بما ينعق وإنما شبهوا بالمنعوق به وإنما المعنى: مثلكم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به الذين لا يسمع.
قال سيبويه: ولكنه جاء على سعة الكلام والإيجاز لعلم المخاطب بالمعنى وهذا تقدير معنى الآية.
فإن قلت فكيف تقدير الإعراب؟
قلت: الأقرب فيه أن يكون على حذف مضاف أى ومثل داعى الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع وعلى هذا حمله أكثر الناس وإن شئت جعلت ما قدرنا عليه المعنى تقديرًا للمعنى والإعراب وقد أخذه على ذلك جملة من شيوخنا ومن قبلهم. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)}.
صم عن سماع دواعي الحق بآذان قلوبهم، بكم عن مناجاة الحق بألسنة أسرارهم، عمي عن شهود جريان المقادير بعيون بصائرهم، فهم لا يرجعون عن تماديهم في تهتكم، ولا يرتدعون عن انهماكهم في ضلالتهم.
ويقال صم عن السماع بالحق، بكم عن النطق بالحق، وعمي عن مطالعة الخلق بالحق. لم يسبق لهم الحكم بالإقلاع، ولم تساعدهم القسمة بالارتداع. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قول الله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}. الآية.
قال ابن عطية: الأصم هو من لا يسمع.
والأبكم من لا ينطق ولا يفهم، والأخرس من يفهم ولا ينطق.
وقيل: الأبكم والأخرس واحد.
قال ابن عرفة: تقدم في الأصول أنه إذا تعارض الترادف والتباين فالتباين أولى وانظر ما معنى كونهما سواء هل يرد الأبكم إلى الأخرس أو بالعكس وعادتهم يقررونه بأن معنى كونهما سواء أن الأبكم والأخرس هو الذي لا ينطق سواء فهم أو لم يفهم، ولو فسرناه برد الأخرس إلى الأبكم للزم عليه الإهمال والتعطيل، لأنّه يكون الأصم من لا يسمع والأخرس والأبكم من لا ينطق ولا يفهم، ويبقى من يفهم ولا ينطق واسطة بينهما مهملا.
قيل له: إنا نجد الأخرس هكذا؟
فقال: قد يكون في الشيوخ الصم من تعطل فهمه.
قال: والترتيب في الآية قدوره بوجهين: إما أنه على حساب الوجود الخارجي لأن المكلف يسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: أني رسول من عند الله فينطق ويقول له: ما دليل صدقك فيريه انشقاق القمر أو غَيره من الآيات.
وإما لأن الأمور منها ما يصدرُ عن الشخص وهو منفعل، ومنها ما يصدر عنه وهو فاعل، فحاسة السمع من قبيل قسم المنفعل لا من قسم الفاعل، لأن الإنسان يسمع الشيء من غيره، وليس له فعل، وحاسة النطق من قسم الفاعل لأنه لا يتكلم إلا باختياره إن أراد تكلم وإلا سكت، وحاسة البصر جامعة للأمرين فالنظرة الفجائية من قسم المنفعل لا من قسم الفاعل لا تسبب للإنسان فيها، وما عداها من قسم الفاعل.
فبدأ أولا بقسم المنفعل لأن الكلام في شيء مخلوق حادث والأصل في الحادث الانفعال لا الفعل، وهما خبر مبتدأ محذوف، وحسن حذف المبتدأ لكون الخبر لا يصح إلا له وتعدد الجنس فيه خلاف فمنعه بعضهم، وأجازه آخرون بشرط كون الجميع في معنى خبر واحد، ومنهمْ من كان يجعله خلافا ومنهم من يجمع بين القولين بأنّ الذي منع من التعدد إنما منع حيث يكون الخبران متناقضين كقولك: زيد قائم قاعد، أو متحرك ساكن.
والذي أجازه بشرط الجمعية معنى واحد، هكذا مراده، لأن النقيضين لا يجتمعان في معنى واحد بوجه.
قال الله تعالى: {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}.
قال أبو البقاء: جملة مستأنفة، وقيل: في موضع نصب على الحال فتعقبه أبو حيان بأن ما بعد الفاء لا يكون حالا.
قال: لأنّ الفاء للترتيب، والحال مقارنة لا ترتيب فيها.
قال ابن عرفة: الحكم بكون الفاء تمنع عمل ما قبلها فيما بعدها صحيح إلا أن هذا التعليل باطل لأنا نقول: تكون الحال مقدرة لا محصلة قال: وقوله: {فهم لا يرجعون}.
قيل: إنه خبر وقيل دعاء.
قال ابن عرفة: لا يتمّ كونه دعاء إلا أنّهم صمّ حقيقة، فإن أريد به المجاز فلا يصح الدعاء عليهم به.
قيل لابن عرفة: ولا يصح كونه حقيقة لأن مقتضاه لم يقع.
فقال: الدّعاء ليس من الله فيلزم حصول متعلقه بل هو أمر للنّبي صلى الله عليه وسلم والملائكة.
فالدّعاء عليهم بهذا اللفظ لا يلزم وقوعه فإنه تحصل للدّاعي مطلوبه، وقد لا يستجاب له، ويثاب على الدّعاء.
قال ابن عطية: وقال غيره، معناه: لا يرجعون، ما داموا على الحال التي وصفهم بها.
قال ابن عرفة: هذا تحصيل الحاصل.
قيل له: قد قال أهل المنطق: كل كاتب محرك يده ما دام كاتبا، ولم يجعلوه تحصيل الحاصل.
فقال: هؤلاء ينظرون إلى المعنى، والنحوي كلامه في صحة تركيب الألفاظ والاصطلاحان متباينان. اهـ.

.قال في روح البيان:

قال بعض العارفين: والعجب كل العجب ممن يهرب مما لا انفكاك له عنه وهو مولاه الذي منّ عليه بكل خير وأولاه ويطلب ما لا بقاء له معه وهو ما يوافق النفس من شهوته وهواه وآخرته ودنياه فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
وأسباب عمي البصيرة ثلاثة: إرساله الجوارح في معاصي الله، والتصنع بطاعة الله، والطمع في خلق الله، فعند عماها يتوجه العبد للخلق ويعرض عن الحق. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)}.
فالحق سبحانه وتعالى.. بعد أن أخبرنا أنه بظلم هؤلاء المنافقين لأنفسهم.. ذهب بنور الإيمان من قلوبهم فهم لا يبصرون آيات الله.. أراد أن يلفتنا إلى أنه ليس البصر وحده هو الذي ذهب.. ولكن كل حواسهم تعطلت.. فالسمع تعطل فهم صم.. والنطق تعطل فهم بكم.. والبصر تعطل فهم عمى.. وهذه هي آلات الإدراك في الإنسان.. واقرأ قوله تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
إذن كونهم في ظلمات لا يبصرون معناها أنها قد تعطلت وسائل الإدراك الأخرى؛ فآذانهم صُمَّتْ فهي لا تسمع منهج الحق، وألسنتهم تعطلت عن نقل ما في قلوبهم وأبصارهم لا ترى آيات الله في الكون إذن فآلات إدراكهم لهدى الله معطلة عندهم.
وقوله تعالى: {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}. أي لن تعود إليهم هذه الوسائل ليدركوا نور الله في كونه.. الإدراك غير موجود عندهم.. ولذلك فلا تطمعوا أن يرجعوا إلى منهج الإيمان أبدا.. لقد فسدت في قلوبهم العقيدة.. فلم يفرقوا بين ضر عاجل وما هو نفع آجل.. نور الهداية كان سيجعلهم يبصرون الطريق إلى الله.. حتى يسيروا على بينة ولا يتعثروا.. ولكنهم حينما جاءهم النور رفضوه وانصرفوا عنه.. فكأنهم انصرفوا عن كل ما يهديهم إلى طريق الله!!.
فالله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة.. أعطانا وصفا آخر من صفات المنافقين هو أن أدوات الإدراك التي خلقها الله جل جلاله معطلة عندهم.. ولذلك فإن الإصرار على هدايتهم وبذل الجهد معهم لن يأتي بنتيجة.. لأن الله تبارك وتعالى بنفاقهم وظلمهم عطل وسائل الهداية التي كان من الممكن أن يعودوا بها إلى طريق الحق. اهـ.